التنمية البشرية وحقوق الإنسان في المجتمع العربي

التنمية البشرية وحقوق الإنسان في المجتمع العربي

1605     06 / 10 / 2018

التنمية البشرية وحقوق الإنسان في المجتمع العربي

مظاهر الارتباط النظري وإخفاقات التطبيق

إبراهيم القادري بوتشيش

 

منذ تسعينيات القرن الماضي ، حصلت نقلة كبيرة في المقاربة الكلاسيكية لمفهوم التنمية البشرية القائمة على اعتماد مؤشرات معدل النمو الاقتصادي ونصيب الفرد من الدخل والرفاهية ، إلى مقاربة جديدة لا تتأسس على البعد الاقتصادي فحسب ، بل على منظور شمولي يقوم على علاقات متشابكة بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية والحكامة السياسية، ويجعل من " الإنسان " محور التنمية وهدفه ووسيلته ، ويركز على تمتعه بحقوقه الكاملة .

حصل هذا التحول بعد أن وجهت انتقادات موضوعية ومقنعة إلى المقاربة التقليدية للتنمية بكونها (( قاصرة إلى حد بعيد )) ، وأنها (( لا تلبي احتياجات الغالبية )) ، وأن النمو الاقتصادي الذي يتيح إمكانية الحصول على الدخل العالي للفرد ، قد يكون مركزا في أيدي أقلية، في الوقت الذي يكون الفقر متفشيا في فئات عريضة من الناس ، ويكون المواطن مسلوبا من حقوقه السياسية . لذلك أعيد صياغة مفهوم التنمية عن طريق إدماج حقوق الإنسان ضمن هذا المقاربة الجديدة القائمة على قاعدة أن لا تنمية بدون تمتيع الإنسان بكافة حقوقه ، وأنه لن يكون مؤهلا لإنجاز التنمية وتحسين فرص معيشته ، إلا بتعزيز مكانته بترسانة من الحقوق التي تتيح له الانخراط في عالم التنمية ، والاستفادة من تطبيقاتها ، وهو العنوان الذي تتأسس عليه فلسفة التنمية البشرية .

          في خضم هذا الجدل الدائر حول مفهوم وغايات التنمية البشرية وربطها بحقوق الإنسان  لا يزال العالم العربي يخطو خطوات محتشمة نحو الانخراط في دائرة هذا المفهوم الجديد للتنمية ، وذلك في مناخ مفعم بالمتغيرات الدولية والإقليمية واكتساح العولمة . فإلى أي حد يمكن تحديد مساحة انخراطه في هذه المقاربة التنموية الجديدة ؟ ذلك ما تسعى هذه الدراسة إلى الإجابة عنه ، مستندة على تقارير البرامج الإنمائية التي تصدرها هيئة الأمم المتحدة سنويا، وما تتضمنه من أرقام وإحصائيات ، فضلا عن بعض الصكوك الدولية والدراسات التحليلية الرصينة ، وذلك عبر ثلاثة محاور يتناول أولها مفهوم التنمية البشرية وتطوره ، بينما يعالج الثاني مسألة الارتباط والعلاقة الجدلية بين التنمية البشرية و حقوق ا|لإنسان ، في حين يدرس الثالث تطبيق التنمية البشرية في الوطن العربي ويحلل عوامل إخفاقاته .

أولا : التنمية البشرية : المصطلح والمفهوم

        1 - في المصطلح :

                            على مستوى البنية اللغوية ، تعرف التنمية بأنها مشتقة من النماء ، وهي الزيادة والانتشار التدريجي ، فيقال نمي نميا ونميا ونماء بمعنى زاد وكثر. ويقال نميته ( دون تشديد )، بمعنى (( رفعته على وجه الإصلاح ))   . أما اصطلاحا فالمقصود بالتنمية هو الزيادة في المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية . وفي هذا السياق ينبغي التميز بين مصطلحي النمو croissance  و التنمية Développement  ، فالنمو معناه التطور التلقائي الذي عادة ما يكون تطورا طبيعيا دون تدخل من الدولة أو المجتمع ، بينما يحيل مصطلح التنمية إلى تلك العمليات المخططة التي تسعى إلى تحقيق النمو بصورة سريعة وخطط محددة  .

          ويعتبر بعض الباحثين  أن مصطلح التنمية يعد من المصطلحات الدخيلة التي بدأ الترويج لها في تقارير البرامج الإنمائية للأمم المتحدة منذ سنة 1990 ، بينما هي سمة بشرية قديمة قدم البشر. في حين عزا البعض الآخر  إشكالية استخدام المصطلح إلى خطأ في التعريب، إذ أن هذا المصطلح الذي شاع استعماله في اللغة العربية هو ترجمة حرفية للمصطلح الانجليزي Human development ، فآثر – بدلا عن ذلك – ترجمته بمصطلح (( التنمية الإنسانية )) حتى يعكس المضمون الكامل للمصطلح الإنجليزي ، خاصة أن مصطلح " البشرية " – حسب وجهة نظره -  صفة تشمل كل المخلوقات ، في حين أن مصطلح " الإنسانية " صفة تعبّر عن حالة راقية من الوجود الإنساني.

          وفي سياق تحليل المصطلح ، يذهب بعض الباحثين  إلى القول بأن مصطلح التنمية البشرية هو وليد التطورات التي عرفتها نظريات التنمية نفسها ، ونظريات النمو الاقتصادي أيضا، وأن تركيبة صيغة المصطلح جاء انعكاسا أمينا لكل حالة متجددة فرضها التطور الاقتصادي لكل بلد ، لذلك تم استخدام تعابير متعددة الدلالات على التنمية البشرية ، يذكر منها على سبيل المثال تعبير تنمية العنصر البشري أو تنمية الرأسمال البشري ، والتنمية الاجتماعية إلى أن تم الاستقرار على مصطلح "التنمية البشرية " .

          وينتقد البعض  هذا المصطلح على أساس أنه يتجاهل الأسباب الروحية للتنمية ، مع إقصاء واضح لموقع الشرائع السماوية في تحديد أهدافها ، بل إن أحد المتخصصين  ذهب إلى ترجيح سبق الخطاب الإسلامي التراثي في وضع قواعد للتنمية البشرية ، مستدلا في فرضيته على المقدمة التي وضعها الخليفة الراشدي علي بن أبي طالب في العهد الذي كتبه لوالي مصر الأشتر النخعي يقول له فيها : (( عليك بجباية خراجها ، وجهاد عدوها ، واستصلاح أهلها ، وعمارة بلادها ))  . واستصلاح الأهل ( البشر) ، وتعمير البلد الوارد في هذه المقولة يعبّر – فيما نزعم - عن العلاقة بين التنمية الاقتصادية وحقوق الإنسان.

          وفي سياق أسلمة المصطلح ، ذهب أحد المتخصصين إلى القول أن الإسلام وضع قواعد واضحة ومميزة تفيد أن التنمية ليست مجرد عملية إنتاج فحسب ، وإنما هي – كما ستنص على ذلك تقارير البرامج الإنمائية للأمم المتحدة بعد قرون – عملية كفاية في الإنتاج ، مصحوبة بعدالة في التوزيع . كما أنها ليست عملية مادية محضة ، وإنما هي في المقام الأول عملية إنسانية تهدف إلى تنمية الفرد وتطوره في المجالين المادي والروحي معا 

ويخيل إلينا أن مصطلح " التنمية البشرية " هو وليد ظرفية خاصة وشروط تاريخية ومعطيات سياسية ومتغيرات دولية ، وأن المفهوم الذي يعكسه والهدف الذي يرومه هو ما ينبغي أن يشكل موضوعا خصبا للنقاش والحوار ، لأنه بالتأكيد حصيلة مشتركة متراكمة أسهمت فيها جميع الحضارات الإنسانية بما في ذلك الحضارة الإسلامية التي كان لها دور في ترسيخ " إنسانية " التنمية عبر سياق تاريخي متفاعل مع الحضارات الأخرى .

2- في المفهوم :

          ورد في مقدمة الإعلان العالمي عن حق التنمية البشرية الذي تم اعتماده ونشر في 4 دسمبر 1986 تعريف التنمية البشرية بأنها (( عملية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية شاملة تستهدف التحسن المستمر لرفاهية السكان بأسرهم ، والأفراد جميعهم على أساس مشاركتهم النشيطة والحرة والهامة في التنمية وفي التوزيع العادل للعوائد الناجمة عنها)).

  ويشي هذا التعريف بمجموعة من المعطيات المتمثلة في :

أ - شمولية المفهوم الذي يؤكد أن التنمية البشرية ذات صبغة عالمية ، موجهة إلى سائر سكان المعمور ، دون الاقتصار على جنس بعينه أو دولة واحدة ، وهو ما تعكسه عبارة (( والأفراد جميعهم )) الواردة في صك الإعلان .

ب - تكامل المفهوم : بمعنى أن التنمية البشرية ، خلافا للتنمية الكلاسيكية لا تقوم على أساس تحسين الوضع الاقتصادي والدخل الفردي فحسب ، بل يتقاطع فيها النمو الاقتصادي مع التنمية الاجتماعية والسياسية ، ويتشابك مع الجانب المعرفي والثقافي والحقوقي ، فهو حسب كلمات الإعلان العالمي لسنة 1986 (( عملية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية شاملة )) .

ج - مفهوم يقوم على الاستدامة ، فتحقيق الرفاهية وربطها بحقوق الإنسان التي تشكل هدفا رئيسا كما يعبّر عن ذلك الإعلان العالمي المذكور ، لا ينحصر في الأجيال الحالية أو في زمنية تاريخية بعبنها ، وإنما يكمن الهدف في الزمن اللامحدود الذي يمس أجيال الحاضر كما يمس أجيال المستقبل المتعاقبة ، وهو ما عبّر عنه الإعلان ب ((التحسن المستمر )) .

د - عدالة الاستفادة : فالتنمية البشرية – على عكس التنمية التقليدية – لا تحصر الرفاه المادي والاجتماعي والثقافي والسياسي في يد أقلية من المجتمع ، بل تهدف إلى توزيع عائداتها توزيعا عادلا تستفيد منه جميع الفئات الاجتماعية دون تمييز .

هـ - يشكل الإنسان العنصر الأساسي في المفهوم الذي أتى به الإعلان العالمي عن حق التنمية ، ذلك أن التنمية البشرية تستهدف الإنسان في المقام الأول ، فهو هدفها ووسيلتها وأداتها .

 والحاصل أن التنمية البشرية عملية مجتمعة تراكمية تتم في إطار من الروابط المتفاعلة التي تحكمها العديد من الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإدارية ، ويكون الإنسان محورها الأساسي وأداة تحقيقها على أرض الواقع ، وهي بذلك تختلف عن المفهوم التقليدي الذي يركز على البعد الاقتصادي ، وتتجاوزه بكونها حصيلة كل الأبعاد المذكورة 

والواقع أن مفهوم التنمية البشرية عرف تطورا مع تطورات نظريات التنمية نفسها ومع نظريات النمو الاقتصادي ، وفي كل مرحلة عكس مفهوم التنمية البشرية حالة جديدة تلائم خط التطور والتقدم الذي أحرزه كل بلد . فخلال عقد الخمسينيات من القرن الماضي ، ارتبط مضمون التنمية بمسائل الرفاه الاجتماعي ، ثم تطور ليركز على أهمية التعليم والمعرفة ، إلى أن تحول مع بداية التسعينيات ليعبّر عن تشكيل القدرات البشرية ، وتمتيع البشر بقدرتهم المكتسبة في جو من الحرية واحترام حقوق الإنسان  .

              وفي تقرير التنمية البشرية الذي أصدره البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في سنة 1990 ، وصفت التنمية البشرية بأنها (( عملية توسيع خيارات الناس بزيادة القدرات البشرية )) ، ويعبّر مصطلح " الخيارات " choice  عن مستوى راق لتطلعات الإنسان . ويعزى الفضل فيه إلى الاقتصادي الهندي الأصل Amartia Sen الذي نحت أيضا منذ الثمانينيات مصطلح "الأحقيات" Entitlement  الذي يعكس حق البشر الجوهري في هذه " الخيارات" . وأحقيات البشر من حيث المبدأ لا تحدها حدود ، وتتنامى بشكل مستمر مع رقي الإنسانية ، لكن عند أي مستوى من مستويات التنمية ، فإن الأحقيات الثلاث الأساسية في تقرير التنمية البشرية هي (( العيش حياة طويلة وصحية ، والحصول على المعرفة ، وتوافر الموارد اللازمة لمستوى معيشي لائق )) ، دون تجاهل الأحقيات الإضافية الأخرى المتمثلة في الحرية السياسية والاجتماعية و(( توافر الفرص للإنتاج والإبداع والاستمتاع بحريات الذات وضمان حقوق الإنسان)) ، لذلك اعتمد البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة على ثلاث مؤشرات تحدد مستوى التنمية البشرية وهي مؤشر الدخل ومؤشر العمر ومؤشر القراءة والكتابة أو ثقافة المعلومات  .

              ويستشف من المعطيات السالفة أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي - المرجعية الأساسية في تحديد التنمية البشرية- يعتبر أن مفهوم هذه الأخيرة يشمل ثلاثة مستويات : يتمثل الأول في تكوين القدرات البشرية مثل تحسين الصحة وتطوير المعرفة والمهارات ، والثاني في توظيف الناس لهذه القدرات في الاستماع والإنتاج سلعا وخدمات ، أما المستوى الثالث فيتمثل في رفاه الإنسان الذي يأتي نتيجة للمستوى الأول والثاني .

و بالاستناد على ما ورد في تقرير التنمية البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة لسنة 2005 ، فإن مفهوم التنمية البشرية قد تمطط ليشمل أيضا العلاقة بين الإنسان والبيئة ، وهو ما يفسر حرص برنامج الأمم المتحدة على الدعوة للمحافظة على التوازن البيئي عن طريق مناهضة التلوث وتخريب موارد البيئة ، والسعي إلى ترشيد استخدامها بصورة بناءة تحفظ حق الأجيال القادمة بالاستفادة منها  . وفي تقرير التنمية البشرية لعام2008 ، ارتفع إيقاع الدعوة للمحافظة على البيئة باعتبارها حقا من حقوق الإنسان ، حيث أفرد التقرير المذكور كتابا خاصا حول التغيرات المناخية ودور البشرية في التعاون للتضامن ضد تهديداتها المحتملة ، ونص ّ على أن (( تغير المناخ يمثل تهديدا هائلا على المدى الطويل ، ويعيق التنمية البشرية وجهود المجتمع الدولي للحد من الفقر))[3] ، وهو ما يعني إضافة حق جديد لإنسان المستقبل ، وهو حق الاستفادة من البيئة ، مما يستلزم الحفاظ عليها لمواجهة خطر تغير المناخ.

              وفي تقرير التنمية البشرية الذي أصدره البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في سنة 1990 ، وصفت التنمية البشرية بأنها (( عملية توسيع خيارات الناس بزيادة القدرات البشرية )) ، ويعبّر مصطلح " الخيارات " choice  عن مستوى راق لتطلعات الإنسان . ويعزى الفضل فيه إلى الاقتصادي الهندي الأصل Amartia Sen الذي نحت أيضا منذ الثمانينيات مصطلح "الأحقيات" Entitlement  الذي يعكس حق البشر الجوهري في هذه " الخيارات" . وأحقيات البشر من حيث المبدأ لا تحدها حدود ، وتتنامى بشكل مستمر مع رقي الإنسانية ، لكن عند أي مستوى من مستويات التنمية ، فإن الأحقيات الثلاث الأساسية في تقرير التنمية البشرية هي (( العيش حياة طويلة وصحية ، والحصول على المعرفة ، وتوافر الموارد اللازمة لمستوى معيشي لائق )) ، دون تجاهل الأحقيات الإضافية الأخرى المتمثلة في الحرية السياسية والاجتماعية و(( توافر الفرص للإنتاج والإبداع والاستمتاع بحريات الذات وضمان حقوق الإنسان)) ، لذلك اعتمد البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة على ثلاث مؤشرات تحدد مستوى التنمية البشرية وهي مؤشر الدخل ومؤشر العمر ومؤشر القراءة والكتابة أو ثقافة المعلومات  .

              ويستشف من المعطيات السالفة أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي - المرجعية الأساسية في تحديد التنمية البشرية- يعتبر أن مفهوم هذه الأخيرة يشمل ثلاثة مستويات : يتمثل الأول في تكوين القدرات البشرية مثل تحسين الصحة وتطوير المعرفة والمهارات ، والثاني في توظيف الناس لهذه القدرات في الاستماع والإنتاج سلعا وخدمات ، أما المستوى الثالث فيتمثل في رفاه الإنسان الذي يأتي نتيجة للمستوى الأول والثاني .

و بالاستناد على ما ورد في تقرير التنمية البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة لسنة 2005 ، فإن مفهوم التنمية البشرية قد تمطط ليشمل أيضا العلاقة بين الإنسان والبيئة ، وهو ما يفسر حرص برنامج الأمم المتحدة على الدعوة للمحافظة على التوازن البيئي عن طريق مناهضة التلوث وتخريب موارد البيئة ، والسعي إلى ترشيد استخدامها بصورة بناءة تحفظ حق الأجيال القادمة بالاستفادة منها . وفي تقرير التنمية البشرية لعام2008 ، ارتفع إيقاع الدعوة للمحافظة على البيئة باعتبارها حقا من حقوق الإنسان ، حيث أفرد التقرير المذكور كتابا خاصا حول التغيرات المناخية ودور البشرية في التعاون للتضامن ضد تهديداتها المحتملة ، ونص ّ على أن (( تغير المناخ يمثل تهديدا هائلا على المدى الطويل ، ويعيق التنمية البشرية وجهود المجتمع الدولي للحد من الفقر))[3] ، وهو ما يعني إضافة حق جديد لإنسان المستقبل ، وهو حق الاستفادة من البيئة ، مما يستلزم الحفاظ عليها لمواجهة خطر تغير المناخ.








موقع أعرف